اخبار خاصة

كيف ساهمت ٢٦ في اشعال ١٤ | ندوة

ندوة في المخا.. كيف ساهمت ثورة 26 سبتمبر في إشعال ثورة 14 أكتوبر

تناول الباحث والأكاديمي الدكتور فضل ناصر مكوع، رئيس نقابة هيئة التدريس في جامعة عدن، في ورقته البحثية المقدمة إلى الندوة التي نظمتها جامعة الحديدة وقناة الجمهورية، أمس، في المخا بمناسبة احتفالات شعبنا بأعياد الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر، دور ثورة 26 سبتمبر وفعاليتها السياسية والفكرية في إشعال ثورة 14 أكتوبر.

وبينت الورقة، الدور الريادي لليمن على مر التاريخ في دعم الأمة العربية، مروراً بمرحلة تحررها من المد العثماني في عام 1918، والتحول الذي حدث في مسيرة الأحرار من الناحية التنظيمية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، والتي عُدت بداية الثورة، والمتمثلة بالتحول من احتجاجات أشخاص على الحكم الإمامي إلى تشكل الجمعيات الأدبية التي دعت للإصلاحات.

كما تناول الباحث الثورات التي شهدتها الشمال منذ أربعينيات القرن الماضي وصولاً إلى ثورة 26 سبتمبر في العام 1962، التي أنهت الحكم الإمامي، لتبدأ مرحلة التحرر من الاستعمار في جنوب الوطن.

ووفقاً للورقة البحثية، فإن ثورة سبتمبر مهدت وغذت بمبادئها ووصلت بكفاحها إلى الحركات التحررية التي نشأت في جنوب الوطن، في خمسينيات القرن الماضي، ضد الاستعمار البريطاني، لتقودها إلى ثورة عارمة ضده بعد عام واحد والمتمثلة بثورة 14 أكتوبر 1963.

ولم يُغفل الباحث دور الحركات التنويرية والثقافية المتمثلة بصدور عدد من الصحف والمجلات، في تنمية الوعي الثوري التحرري التي قادت إلى تفجر الثورة اليمنية “سبتمبر وأكتوبر”، كما تطرق إلى المرحلة التي تلت ثورتي سبتمبر وأكتوبر من صراعات ومفاوضات ومباحثات، للوصول إلى الوحدة اليمنية في العام 1990.

نص الورقة البحثية:

ثورة 26 سبتمبر وفاعليتها السياسية والفكرية في إشعال ثورة 14 أكتوبر

بحث مشارك في الندوة العلمية المعنونة بـ(واحدية الثورة اليمنية) والتي أقيمت في رحاب جامعة الحديدة في 12 أكتوبر 2023م.

أ.د.فضل ناصر مكوع

1444هـ – 2023م

رئيس نقابة هيئة التدريس جامعة عدن

من المعروف أن اليمن منذ فجر التاريخ لا يحمل إلا البشرى السارة الدالة على الخير والأمل، وقد كانت اليمن هي المدد الفاعل لهذه الأمة في كل المراحل والمنعطفات، غير أن أعداء الإسلام لهم أهدافهم التي تحمي مصالحهم وإشباع رغباتهم، والإصرار على الأنانية، ويعملون على تطبيقها بشتى الوسائل، وتعدُّ من المخاطر الكبرى التي تواجهها أمتنا، وحكامنا العرب في الأغلب الأعم هم في غفلة وضعف وسذاجة، فلم يتوخوا الحيطة والحذر وهم يدركون ذلك، ويبدو أن همهم الرئيس مصالحهم وأنانيتهم الضيقة، ولا يبالون بما يحل بالشعب أو الوطن، لكن لا يعني أن الشعب العربي هو الآخر في غفلة ولنستمد من تاريخنا وإرثنا ما يمنحنا من القوة الصمود والمواجهة، ولنأخذ من موقف اليمن الشعبي والرسمي مقياساً للمقاومة العربية، وستظل اليمن، بمشيئة الخالق جل شأنه، محافظة على عقيدتها ومواقفها حريصة على تماسك الأمة ووحدتها؛ ففي الوقت الذي تمر أُمَّتنا العربية والإسلامية بأسرها بمرارة الحزن والألم والانكسار والتصدع والظلام، ينبلج من اليمن شعاع من النور ويخرج منتصراً حين يحاصر العرب كلهم، ويعوض الحزن المخيم بأفراح تضيء، ترتاح لها النفس العربية صانعاً النصر والأمل لهذه الأمة. ولنا في التاريخ الحديث والمعاصر ما يؤكد ذلك. ألم تولد ثورة 26 سبتمبر 1962م والعرب ما زالوا يعيشون ألم مرارة الانفصال عام 1961م، بين مصر وسوريا؟ ألم تشرق شمس الحرية، شمس الاستقلال الوطني في نوفمبر 1967م عندما تم طرد الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن، ولم تكن سوى أشهر قليلة قد مرت على نكسة حزيران؟ بل ألم تولد الوحدة المباركة والعظيمة في وسط ظن فيه الكثير أنَّ واقع التجزئة والتقسيم، والتشطير هو قدر العرب وقانون حياتهم المعاصرة؟ وقد راهن الأعداء على ذلك، ولكن كل الرهانات ضلَّت لتبقى الوحدة شامخة، ولم يقف اليمن يوماً في عقبة التطور ولكنه ظل بكل إرادته يتغنى بأمجاد العروبة والإسلام في كل بطولاته، رغم التحديات الكبيرة… وبالمقابل حققت اليمن نصراً جديداً حينما أفشلت أكبر مؤامرة عرفها التاريخ والتي هدفت إلى ضرب الوحدة والعودة بعجلة التاريخ إلى الخلف، وقد تعددت دوافع المؤامرة وتنوَّعت مصادرها الدولية والإقليمية والمحلية، وعلى الرغم من كبر حجمها وقوة تسلّحها أفشلها شعبنا العظيم، وعمَّدَ وحدته المباركة بدماء الشهداء الأبرار، وحقق اليمن نصره العظيم في 7 يوليو 1994م، وبذلك قضى على اكبر مؤامرة عرفها التاريخ اليمني، هدفت إلى تمزيق اليمن وتشتيته، وقد شكلت هذه المؤامرة الخطر والداء الحقيقي لأرض الجنتين وشعبها الصامد صانع الحضارات وباني المنجزات، وقد تصدت قوى الخير بزعامة ابن اليمن البار المشير علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية لهذه المؤامرة وأفشلتها، وخرجت اليمن، بفضل حكمة قائدها وحنكته، إلى بر الأمان منتصرةً، ولا شك في أن هذا الانتصار الكبير قد غاظ أعداء اليمن ومطاياهم وأدواتهم. فمنذ ذلك التاريخ وهم يسعون إلى خلخلة الأمن، وبدأوا يفكرون في إغراق اليمن بالفساد والرشوة والتطرف والغلو وغير ذلك، وهذا بالتأكيد أدى إلى تفشي الفساد في كل مفاصل السلطة، إذ إن الفساد الإداري والمالي يعد جزءاً لا ينفصم من المؤامرات التي استهدفت بلادنا على مدى تاريخ اليمن الطويل، وعلينا أن ندرك بأن الفساد هو الشعار الرئيس لأعداء أُمَّتنا، وشغلهم الشاغل، فهم يعملون على قدم وساق على نشر الفساد في الدول العربية والإسلامية كافة.

لقد شهدت اليمن متغيراتٍ سياسيةً كثيرةً، منها تحرر شمال اليمن من قبضة الحكم العثماني في عام 1918م، وتولي الإمام يحيى حميد الدين الحكم، ومنها اندلاع الحرب اليمنية – السعودية في عام 1934م، التي أظهرت “هشاشة النظام الإمامي، و[حقيقة] استخذائه إزاء خصمه ملك نجد والحجاز” ( )، حيث انتهت باحتلال جزء من اليمن وبتوقيع معاهدة الطائف بين البلدين – في فبراير من العام نفسه بين الإمام يحيى والملك عبد العزيز آل سعود، وفي العام نفسه تم توقيع المعاهدة (الإنجليزية الإمامية) التي ثبتت تجزئة الأرض اليمنية، إذ قسمت اليمن على إثرها إلى شطرين وسلّم الإمام يحيى حميد الدين بموجبها مناطق الضالع ويافع العليا والصبيحة للإنجليز وكان ذلك اعترافاً منه بوجود بريطانيا في الجزء الجنوبي من اليمن( ).

نواة الثورة*

بداية الثلاثينات، ظهرت أول جماعة تدعو للإصلاحات التقدمية في اليمن أسسها الحاج “محمد المحلوي” والشيخ “حسن الدعيس”. وتجمع حولهما كل الرافضين لسياسة الإمام. ووقفوا جميعاً ضد “امتيازات الأسرة الحاكمة وطغمة السادة”، فيما بدأ الإمام بتعقب هؤلاء الأحرار واعتقالهم والتنكيل بهم. وأول من تعرض للاعتقال والتعذيب في صنعاء وذمار؛ أحمد المطاع وجغمان.

وشهد النصف الثاني من الثلاثينات، تحوّلاً في مسيرة الأحرار من الناحية التنظيمية، فبدلا من احتجاجات أشخاص ساخطين على سياسة الإمام إلى الجمعيات الأدبية.

ولدور الكلمة في التحرر، أنشأ الشباب الأحرار في العام 1936 جمعيات أدبية بصنعاء وتعز، وبدأوا “بانتقاد السلطة غير المحدودة للإمام، ونظام جباية الضرائب والتمييز”، وبعدها أصدر المثقفون الأحرار مجلة “الحكمة”، صدرت شهريًا لثلاث سنوات (1938- 1941)، وازداد المتعاونون معها عام 1939م.

وفي عام 1939م قامت الحرب العالمية الثانية بين دول المحور ودول الحلفاء( )، والتي استهدفت أراضي هذه الشعوب ومواطنيها إلاّ أنّ ويلاتها عمّت العالم بأسره، ومنه اليمن فعلى الرغم من الموقف الحيادي للإمامِ المتوكل يحيى بن حميد الدين الذي حكم شمال اليمن عام 1918 حتى عام 1948 فقد أصاب اليمن ما أصابها من ويلات هذه الحرب( )، لا سيما وقد وصلت هذه الحرب إلى شواطئ اليمن وكانت “تدور رحاها في مناطق وجزر يمنيةٍ بين إيطاليا وبريطانيا”( ).

وعند مطلع الأربعينيات بدأ نضال الشعب اليمني في شماله ضد نظام الإمامة، ويعدُّ حزب الأحرار -الذي أسس عام 1944م في عدن، وتحول فيما بعد، إلى الجمعية اليمنية الكبرى عام 1946م بزعامـة الزبيري- نواة حركة النضال للإطاحة بذلك النظام، فقد أعلن الأحرار اليمنيون ثورتهم الأولى بقيادة الشيخ علي ناصر القردعي، باغتيال الإمام يحيى، بمنطقة حزيز. تكللت باغتيال الإمام يحيى حميد الدين ورئيس وزرائه القاضي عبد الله بن الحسين العمري في 18 فبراير ـ شباط 1948م في إحدى ضواحي مدينة صنعاء( ). في حين فشل الفريق الآخر المكلف باغتيال الأمير أحمد في تعز الذي نصب نفسه إماما.

وفي صنعاء، توّج الوزير إماماً جديداً. وأعلن قيام مملكة دستورية برلمانية، وإلغاء نظام الجبايات. وعُقد أول اجتماع للبرلمان برئاسة الأمير إبراهيم، الذي عين رئيساً للوزراء.

وفي 14 مارس اجتاح الإمام أحمد، صنعاء برفقة أخويه الحسن والعباس، ومعه حشود القبائل الذين أباح لهم نهب المدينة. وهكذا خُلعت حكومة الوزير بعد 21 يوماً.

وانتهت الأحداث باعتقال عشرات الأحرار. وفي 16 مارس، اُعتقل الوزير، وسيق مع أنصاره إلى سجن حجة. وبداية أبريل أُعدم 31 رجلاً من قادة الحكومة الدستورية، وحكم على البقيّة بالسجن.

وتعد هذه الثورة من أولى الثورات العربية التي شارك فيها عدد من الرجال العرب منهم البطل العراقي جميل جمال والبطل الجزائري الفضيل الورتلاني، وحمل النصيب الأكبر في هذه الثورة رجال الفكر والأدب، إلاّ أنها أُخفقت بعد شهرٍ من تفجيرها، وأُعدم بعضُ قادتها، وسجن بعضهم ونُفي آخرون “وشهدت اليمن من المجازر والمآسي ما لم تشهده في عصور الطغيان كلها”( ).

ولعل انفتاح اليمن على العالم الإنساني جعل أصحاب الفكر والقلم فيها يضعون أيديهم على الأسباب والثغرات التي عن طريقها يمكن للاستعمار أن يحتل أي جزءٍ من أجزاء البلد ويحكم السيطرة عليه، ونلمس هذا بوضوح في بعض النماذج الشعرية الجيدة التي نظمت في أعقاب ثورة 1948م( ).

ثورة 1955م:

تأزّم الوضع في اليمن عام 1953 في اليمن رغم إن روح الثورة لم تمت بل استمرت متأججةً في النفوس، فأشعلت ثورة 1955م، بقيادة المقدم أحمد يحيى الثلايا وعبد الله بن يحيى بن حميد الدين، وقد وجه الثلايا جنوده بمحاصرة الإمام أحمد في قصره بمدينة تعز ابتداءً من 28 مارس 1955م، وطالبه بالتنازل عن العرش لأخيه عبدالله، وهو ما تم بالفعل، كما طالبوه بمغادرة البلاد إلى مصر إلا أنه رفض، وسانده الإمام الجديد (عبدالله) إذ رفض تعزيز الحراسة عليه أو نفيه وهو ما مكّن الإمام المخلوع، من خداع حراسة القصر والفرار.

وبعد إعادة سيطرته على الأمور، أصدر حكماً بإعدام الثلايا وأنصاره في 6 أبريل، وأرسل أخويه عبدالله والعباس إلى سجن حجة، وأعدمهما هناك.

وبعيداً عن الفشل، ورغم فشل هذه الحركة إلا أنها شكلت “حدثاً مهماً في حياة البلاد السياسية” بوصفها أول “انتفاضة قام بها الجيش ضد نظام الإمامة المستبد”. التي أخفقت، بعد أسبوع مِنْ إعلانها وأُعدم قادتها. وقد ألهبت مرحلة الخمسينيات حماسة الشعراء، فبدأت الندوات الشعرية تتشكل، وتعد الندوة الشعرية العدنية و(تحية التاج)1951م أول المهرجانات التي شهدت نشاطاً شعريّاً، وأدت فيما بعد إلى نهضة أدبية كبيرة في هذه المرحلة، كما نشرت دواوين عديدة للشعراء اليمنيين( )، فضلاً عن القصائد التي نشرتها الصحف.

وقد اتجه الشعر في اليمن إلى معالجة القضايا السياسية ونقد المستعمرين وحكم الأئمة، وطالب بحرية الشعب ومحاربة الفساد في صوره المختلفة واستقى من التراث الرموز التاريخية والمآثر الحضارية، ليوقظ الهمم ويبعث الأمل ويرد الثقة إلى النفس، فالعودة إلى التاريخ مرتبطة بالتأمل الذي يستخلص العِبرة والعظة فيدعم الحاضر ويقويه، وقد بلغ الاتجاه الثوري قمته منذ ثورة 1948م، وقد اتخذ الشاعر إبراهيم الحضراني قصيدته التي تعبر عن حادثة استشهاد حميد بن الأحمر ووالده اللذين تمردا على ظلم الإمام فأعدمهما عام 1959م، فيقول مستلهماً عدداً من الرموز التاريخية فيردد أسئلته متألما حزيناً:

أيـن مضى السـؤددُ والمفخرُ وأيـن أيـن الملك يا حميرُ؟

وكيف ذل العـرشُ من بعدما دانَ لـهُ الأسـود والأحمر؟ُ

أيـن أسـودُ من بني يعربٍ زها بها ( غمدان والتعكرُ )؟

وأسد غابٍ فـي ذرى (ناعطٍ) ومفخر في (خَمِـرٍ) يُبـهرُ

والعرش أين العرش في (مأربٍ) وحوله أسد وغـى تـزأرُ؟

فـإنما الخـضراء مـن بعدهم وقد تولّى عيشها الأخـضرُ

سفيـنةٌ قـد مـاتَ ربـانها أو غابةٌ فارقـها القسـوَرُ

بكى لها حسـانُ فـي قبـرهِ وضج حزنا تبّـعُ الأكبـرُ( )

وفي مارس 1960م حاول كل من الضباط: محمد عبد الله العلفي وعبد الله اللقيّة ومحسن الهندوانة اغتيال الإمام أحمد في (الحديدة) إلا أن المحاولة نجمت عن إصابته فتركته أسير فراشه حتى مات بعد عام من تـلك المحاولة، ولقي قادة هذه المحاولة مصرعهم، إذ قدموا دماءهم الزكية وأرواحهم الطاهرة فداءً للوطن وانضموا إلى قوافل الشهداء الأبرار في رحاب الخالدين، وكم لقي رجال الفكر في اليمن من اضطهاد ومحاربة! قام بها الأئمة الذين حكموا هذا الشعب مئات الأعوام بالدجل والتضليل تارة، وبقوة الحديد والنار تارة أخرى، وعلى الرغم من كل هذه الأحداث التي فرضت على الشعب اليمني تكررت مقاومة الشعب وثوراته التي كانت استهلالاً للثورة الكبرى، إذ استطاع حملة الأقلام ورجال الفكر أن يضطلعوا بمسؤولياتهم ويقوموا بواجبهم فتحطمت الأغلال وانتصرت إرادة الشعب بثورة 26 سبتمبر (أيلول) سنة 1962م بقيادة المشير عبد الله السلال( ) التي اكتسحت نظام الإمامة وأقامت مكانها نظاماً جمهورياً. إذ كانت الثورة نقطة تحول وبداية مرحلة جديدة من النضال والبناء في كل المستويات تبلور بها الوعي. فكانت نبعاً ثرَّاً استقى منه الشعراء موضوعاتهم( ). ومن ذلك على سبيل المثال قصيدة أحمد بن عبد الرحمن المُعلَّمِي الذي حيّا ثورة 26 سبتمبر (أيلول) بقصيدة طويلة تعبّر عن نفسٍ وحْدوي فياض وروح وطنية، إذ يقول في أبيات منها:

طلع الفجـرُ وهـذا نـورهُ يغمر الشعبَ فـما أبهى سناهْ

قـد غسلـنا بدمـوعٍ ليلهُ بدم زاكٍ وشـيَّـمنا خـطاه

وبعثنا مجـدنا مـن قبـرهِ وتوحدنا لكـي نحـمي حماهْ

نحـن شعـبٌ يمـنيٌّ واحدٌ ما وهي عزماً ولا خارت قواه

ضمنا في الأرض هذي موطنٌ خصـه الله بخـيرٍ وحــباه

نحن شعبٌ قـد تعاهدنا على سحق من يغشى لعدوانٍ ثراه

شعبـنا شعبٌ أبـيٌّ ناهضٌ وسلوا التاريخ عن ماضٍ عـــــلاه( )

وكانت ثورة 26 سبتمبر 1962م، واحدة من أهم ثورات وأحداث النصف الثاني من القرن العشرين الماضي والتي كانت امتداداً للثورات والانتفاضات التي سبقتها في أعوام 1948 و1955 و1959 ضد النظام الإمامي الذي فرض العزلة على شعبه وعلى نفسه، ولكن هذا النظام برغم كل سلبياته يُحسب له حفاظه على السيادة الوطنية وعدم‮ ‬التفريط ‬بها‮.‬‬‬‬

بعد قيام الثورة انطلقت عجلة التطور بفضل دعم مصر عبد الناصر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإدارياً وجهود وأموال العديد من اليمنيين في الداخل والخارج في كثير من مجالات الحياة، منها: التعليم والصحة والبنية التحتية وبناء الجيش والمساهمة الاستراتيجية في الدفاع عن النظام الجمهوري ثم دعم ثورة 14 أكتوبر 1963.

ككل الثورات لم يكن طريق سبتمبر معبداً لأنه لا يمكن القضاء على تخلف قرون بين ليلة وضحاها وخاصة أن الثورة واجهت تحديات حربية خارجية متعددة الأطراف، ولعل أصعب تلك التحديات على الإطلاق تحدي الحكم وتحدي الواقع الاجتماعي الشديد التخلف.

وكنتيجة لذلك لم تسلم ثورة سبتمبر كغيرها من الثورات من آفة الانقلابات والاغتيالات والخلافات بين قوى الثورة نفسها استنزفت مع الحرب إمكانيات البلد البشرية والمادية والعسكرية وقلصت من فرص التطور والاستقرار.. فكانت الثورة ما إنْ تخرج من حرب حتى تدخل في حرب أقسى وأشد، يدفع الشعب اليمني ثمنها، وآخرها الحرب الحالية المستمرة منذ 2015 والتي طالبنا بوقفها منذ يومها الأول وقدمنا العديد من المبادرات ومشاريع الحلول لإيقافها وإحلال السلام في اليمن والمنطقة وما زلنا آملين أن ينتصر صوت الحوار والسلام على صوت السلاح والحرب وتجار الحروب.

لقد أردفت ثورة سبتمبر (أيلول) بعد عام من نجاحها قيام ثورة 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1963م في جنوب اليمن، التي مهدت لها هي الأخرى عملية تشكيل الأحزاب( ) في الخمسينيات، وتغذت بمبادئ وأهداف ثورة سبتمبر وواصلت كفاحها المسلح بقيادة الجبهة القومية، وجبهة تحرير الجنوب وقد تكونت من حركة القوميين العرب، وتنظيمات صغيرة أخرى( )، فضلاً عن القاعدة الواسعة من أبناء الشعب، وكان معظمهم، آنذاك، في إطار التيار الناصري بما في ذلك حركة القوميين العرب، ومن أهم القصائد التي عبّرت عن ثورة 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1963م قصيدة الشاعر محمد سعيد جرادة (ثائرة من ردفان 1963) إذ يقول في أبيات منها:‬‬‬‬‬‬‬‬

ردفان سوف يضـع الـ ـتاريـخ فيـه ميسمه

وســـوف يبقى للنضا ل دوحـة مخضـرمـه

يغرسـها فـي قلبه الـ جيـل ويسقيها دمــه( )

وبعد خلافات وانقسامات حادة داخل الجبهة وقواعدها ظهرت قوى وشخصيات جديدة شاركت بفعالية قوية في الكفاح المسلح أدى ذلك كله إلى دمج الجميع في إطار جديد باسم جبهة التحرير في 13 يناير (كانون الثاني) 1967م. وسرعان ما تفكك الدمج وحصل الانفصال بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، ثم سارت الأمور على النحو النضالي المعروف حتى حمل الاستعمار البريطاني عصاهُ وَرَحلَ إلى غير رجعة في 30 نوفمبر (تشرين ثاني) 1967م حين أُعلنت اليمن الجنوبية جمهوريةً. وقد عبر الشاعر لطفي جعفر أمان عن هذه المناسبة بقصيدته (بلادي حرة)، يقول فيها:

على أرضنا بعد طول الكفاح

تجلّى الصباح .. لأول مره

وطار الفضاء رحيبا رحيباً

بأجنحة النور ينساب ثرّه

وقبّلتْ الشمسُ سُمّرَ الجباه

وقد عقدوا النصر من بعد ثوره

وغنى لها مهرجان الزمان

بأعياد وحدتنا المستقرة

ويبدو أن الصراعات الدموية التي سبقت الاستقلال في الجنوب وانقلاب 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967م ( ) في الشمال عرقلت تحقيق الوحدة اليمنية، فضلاً عن تحالف القوى المعادية للثورة (الداخلية والخارجية) لإسقاط الحكم الجمهوري، التي حاصرت صنعاء في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967م حصاراً مُني بالفشل في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) 1968م بعد سبعين يوماً بفضل مقاومة الشعب وبالتعاون مع الجيش وقوى الأمن. وقد عبر عن هذا الحدث الشعراء( )؛ لأنه يشكل منعطفاً جديداً في حياة الشعب وتعد قصيدة الشاعر عبد العزيز المقالح الصارخة (إلى السلاح) التي يدعو المواطنين فيها إلى حمل السلاح للدفاع عن مبادئ الثورة وأهدافها خير تعبير عن هذه الأحداث، إذ يقول فيها:

(جنكيز خان) والمغول قادمون

والأهل والديار والبنـــون

غداً سيعدمون

إن لم نعد السور والخنادق

ونشرع البنادق

سترتدي المدينة السواد

ستغرق النساء في الحداد

سيرجع الفساد

الليل والإرهاب والسجون

سيرجعون ( )

فلبى المواطنون هذا النداء وحملوا السلاح وتصدوا للغزاة الطامعين.

وفي الوقت نفسه فإن معجم القصيدة الشعري يدور “في معظمه حول الدعوة إلى الصمود والتصدي والتحريض والتخويف من عودة الفساد والطغيان الممثل في القوى المحاصرة” ( )، وقد عبّر الشاعر محمد سعيد جرادة في قصيدته (بعد حصار السبعين يوماً) عن هذا الانتصار الذي حققه الشعب اليمني، إذ يقول في أبيات منها:

تريـدون أن تبعثوا الغابـرا وأن تنصروا المجـرمَ الفاجرا

وأن تجعلوا غدنا مثل أمـسٍ مكتـئباً عابـسـاً باسـرا

وأن ترجعـوا ليـل آلامـنا طويل المدى موحـشاً كافراً

وأن توقفوا زحفنا في الطريق وقد صار منتصـراً ظافـرا

خسئتم وخبتم فقد اطْلَـعتْ سماواتنا فجرنـا الـزاهـرا

وقد نصـر الله مـن أيّـدوه وأوقع فـي الهـوة الغـادرا( )

ولم يقتصرْ ذلك الصراعُ على الشمالِ، فَقد شهد الجنوب صراعاً مثله بين القوى الوطنية سقط بسببه آلاف الشهداء نتج عنه انقلاب في 22 يونيو (حزيران) 1969م سُمي بالخطوة التصحيحية، أُطيح خلاله بالرئيس قحطان الشعبي.. ونفذت عمليات تصفيات جسدية لكثير من المناضلين الشرفاء، فضلاً عن الصراعات الداخلية والخارجية التي افتعلها النظام في الجنوب، وفضلاً عن علاقته السيئة بالجيران. غير أن شعار الثوابت الوطنية لم يبارح التصحيحيين اليساريين، فقد عبر الشاعر محمد سعيد جرادة في قصيدته (22 يونيو 1969م) عن فرحته بهذا الانتصار مؤازراً قادة الانقلاب، إذ يقول في مطلعها:

أرض بلقيس رحّبي بالصباح

رافـعاً رايـة السنى اللمّاحِ( )

وفي بداية السبعينيات ونتيجة لسوء العلاقة بين نظامي شطري اليمن دخل اليمن في صراع مسلح، في سبتمبر (أيلول) عام 1972م، وبعد حرب طاحنة بين أبناء اليمن الواحد بدأ اليمن كأنه على حافة الهاوية وعند الحدود المصطنعة بدأت تلوح في الأفق نذر حربٍ أهلية، ولكن الغيوم سرعان ما تبددت عن سماء اليمن، وتحولت حالة المواجهة بين الأشقاء إلى تقاربٍ أخويٍّ أدّى إلى اتفاق على قيامِ دولةٍ تجمع شطري اليمن ويكون لها علمٌ واحد وعاصمةٌ واحدة ورئاسةٌ واحدة وسلطاتُ تشريعيةٍ وتنفيذيةٍ واحدة( ). حيثُ كانَ الاتفاق في 28 تشرين الأول 1972م في القاهرة. ثم أعقبه في ديسمبر من العام نفسه بيان طرابلس، والذي ينص على ضرورة تحقيق دولة اليمن الكبرى.

وقد عبر الشاعر يحيى علي زبارة عن هذه الاتفاقية، أي اتفاقية القاهرة بين قيادتي شطري اليمن التي تنص على إعادة تحقيق وحدة اليمن قائلاً:

مـاذا تقول قرائح الشعراءِ في مهرجان الوحدة الغـرّاءِ

آمال شعبٍ تلتقي في وحدةٍ الأهـداف والأهواءِ

نبتت على مر الدهور أصولها في ظل حكم شريعة سمحاءِ

ولدت مبادئها المكارم مثلما تلد الزهور روائح الأشذاءِ

لا خير في شعبٍ يعيش مشتتاً تسطو عليه مطامـع الأعداءِ

من ذا يفرق في جنوب بلادنا وشمالهـا إلاّ يـد العمـلاءِ

الطامعيـن بأن يضيعوا مجدنا فـي ترهات الفرقة العميـاءِ

هيا نعيـد لنا حضارة حمير في ظل وحدة شعبنا البـناءِ( )

وظلت الوحدة اليمنية هي العنوان الرئيس لكل اليمانيين والشعراء منهم على وجه الخصوص، وقد عبر عبد العزيز المقالح عن تمسكه التام بالوحدة اليمنية، والتي تعد القضية المهمة لشعبه، وكم كان ملتزماً بذلك، إذ يقول في قصيدته (إلى عيون “إلزا اليمانية”):

أنتِ ما أبصرُ الآن

ما كنتُ أبصرُ بالأمسِ

عيناك ضوئي

ووجهك نافذتي .. ودليلي

إذا سألوني عن أسمي أشيرُ إليك

وإن سألوني الجواز نشرت على جسدي وجهك العربي

المرقع بالجوع

أنتِ يتكلم في شفتي صوتُكِ الواهنُ

صوت وجهي وصوتي،

وعين غدي

يا أميرةَ حبّي وحُبِّ الزمان ( )

وعلى الرغم من اتفاقية القاهرة وبيان طرابلس في 1972م بين القيادتين اليمنيتين إلاَّ أن علاقة التقارب الأخوي والوحدوي لم تتعمق إلاَّ في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي الذي تولّى مقاليد الحكم في شمال اليمن في 13 يونيو 1974م، إذ كانت حركته التصحيحية “بداية تحول في الواقع الاجتماعي والاقتصادي نحو الاستقرار والرخاء شهدته اليمن في شطرها الشمالي بعد مراحل الحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي” ( )، غير أن هذا لا يعني نهاية للصراع بين نظامي الشطرين وبين قيادة الشطر الواحد نفسه، فقد شهدت اليمن حروباً متواصلة وانقلابات متكررة، إذ لقي ثلاثة رؤساء مصرعهم فيما بين عامي 77- 1978م ( ).

كما مرّت اليمن بحرب هوجاء وعلى الحدود المصطنعة أدَّت إلى اتفاقية قمة الكويت في 1979م بين رئيسي الشطرين( ) تمخض عنه تفعيل عمل لجان دولة الوحدة، التي ظلت تعمل على قدم وساق حتى تحققت وحدة اليمن في 22 مايو 1990م( ) وبطرق سلمية.

وقد شهدت مرحلة الثمانينيات في النصف الأول منها استقراراً نسبياً وتقارباً تامَّاً بين أبناء اليمن الواحد شعباً وحكومةً، غير أن هذا لم يدم طويلاً بعد أن عصفت بجنوبه كارثة مدمرة في 13 يناير 1986م، فقد شهدت مدينة “عدن” بسبب انقسام حاد في نظام الجنوب حربا دموية لم تعرفه اليمن في تاريخها أحرقت الأخضر واليابس وحصدت الآلاف من الكفاءات والقيادات العلمية والفكرية والأدبية والإعلامية من مناطق اليمن كافة، فضلاً عن العسكرية، وكانت نهايتها مأساة كبرى لليمن طرقت باب كل بيت فقتل فيها عشرات الآلاف وسجن من سجن وهم بالآلاف أيضاً، فضلاً عمن شردوا ويقدرون بمئات الآلاف وفرض على نظام الجنوب بعد هذه الكارثة عزلة سياسية واقتصادية أثّرت على حياة الناس، بعد أن أصبحت أنظمة الدول الاشتراكية تتساقط واحدة تلو الأخرى.

وعلى الرغم من تعاقب الأنظمة الشطرية كانت هناك لقاءات واتفاقيات مهمة تعقد بين النظامين حققت نجاحات جيدة في المستويات كلها، غير أن أعداء اليمن كثفوا من مؤامراتهم في عدم تحقيق الوحدة ولكن جهود اليمنيين وإرادتهم أصبحت أقوى من كل التحديات، ونتيجة لسقوط الأنظمة الشيوعية لم يجد النظام المتسلط على جنوب اليمن من بد لبقائه سوى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ــ ولا سيما وقد قطعت خطوات مهمة ــ بوصفها الأرض الخصبة لضمان استمرارهم وعلى هذا تضافرت الجهود وتم تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م ليصبح هذا اليوم عرس الأعراس وعيد الأعياد، ثم تم الاستفتاء الشعبي على دستور دولة الوحدة ولعل مبدأ الحوار والتعددية السياسية والحرية والديمقراطية كانت من الركائز الرئيسة، التي كفلها دستور دولة الوحدة، ومن المؤسف حقاً أنه لم يمض سوى شهرين ونيف من قيام الجمهورية اليمنية إلا وقد تفجرت أزمة الخليج الأولى وكانت كارثة على الأمة العربية والإسلامية كلها، وكانت اليمن من الدول الأكبر تضرراً، في المجالات كافة، فضلاً عن عودة مليوني مهاجر من دول الخليج العربي، وتعثر العلاقة بين اليمن ودول الخليج العربي بسبب الموقف الوطني لليمن الرافض للحرب والدعوة إلى معالجة المشكلات بين الأشقاء في إطار البيت العربي وعن طريق الحوار، ونظراً لأن الأزمة قد تفاقمت لأنها تحركها قوى عالمية ممثلة بأعداء أُمَّتنا من دون استثناء فأشعلوا حرباً شعواء أحرقوا الأخضر واليابس ودمروا ما دمروا من ممتلكات الأمة وأسهموا في إشاعة الفوضى في الدول العربية والإسلامية كافة.

تطور الوعي الثقافي والفكري:

لقد أسهمت عوامل كثيرة في تطور الحياة الفكرية في اليمن منذُ مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، يتصدرها ظهور الوعي السياسي المتمثل بتشكيل حزب الأحرار اليمنيين الذي دعا إلى تنظيم الشعب، والإعداد للثورة التي تزعمتها قيادات من أصحاب الفكر والقلم الذين كان لهم دور ريادي مهمٌّ في تفعيل العمل الثوري، إذ نشروا القصائد التي تحفّزُ الشعب اليمني للقيام بالثورة. وبعد أن تبلور الوعي الأدبي والفكري تأسست المنتديات الأدبية، فضلاً عن المخيمات والحلقات، وقد تنوعت المطابع ورافقها ظهور متنوع للمكتبات، وأخذت الصحافة دورها في تفعيل الأدب اليمني، والشعر منه على وجه الدقة والتحديد.

وقد رأى علي محمد لقمان “إلى أن ما هم فيه ـ في الأربعينيات ـ من نشاط أدبي لم يظهر فجأة وإنما بدأ منذ سنة 1924م بإنشاء أول نادٍ باسم (نادي الأدب العربي)، وتولى هذا النادي مراسلة الصحف والمجلات الأدبية العربية، ثم ازدهرت حركة إنشاء النوادي والمخيمات والحلقات الأدبية في معظم مناطق عدن”( )، وقد كان للمبعوثين إلى الخارج العائدين من (العراق ومصر والسودان) تأثير في تعزيز الدعوات الإصلاحية، فقد عادت هذه البعثات إلى أرض الوطن حاملةً معها مجموعة من الكتب الحديثة ودواوين الشعر العصرية( ) التي ظهر أثرُها في ارتفاع صوت الإصلاح والنهضة وفي تنشيط الحركة الفكرية والثقافية( ) فطالبوا برفع المستوى الثقافي والصحي والاجتماعي للبلاد، وقد كان نظام الإمام يعارض أصحاب هذه الدعوات ويحاربهم( )، لأن الإصلاح يؤدي إلى رقي الفكر، وهذا يُسهم في التفكّر بالحريات الفردية وواقع البلد، وهذا مما لا يريده الإمام في شمال اليمن، أما في الجنوب فنلمس إسهاماً كبيراً للجمعيات الإصلاحية والأندية الثقافية في إرسال البعثات العلمية والمناداة بالإصلاح وإحداث التطوير المطلوب( ). وقد كان لتلك النوادي أثرٌ “في تشجيع الثقافة العامة بين جموع الشعب عن طريق المجلات والكتب والمعارض وغيرها” ( ).

ولا نغفل الأثر الريادي للصحافة في إحداث النهضة الفكرية والسياسية والأدبية في شعر اليمن الحديث، وتعدُّ صحيفة (صنعاء) أول صحيفة تصدر في اليمن في مطلع القرن العشرين، واستمرت حتى خروج الأتراك من اليمن عام 1918م، وميزتها أنها كانت تصدر باللغتين العربية والتركية، وإن كان مستواها الثقافي محدودا إلا أنها أخذت الريادة في النشر، ومن ثم تبعها صدور (جريدة الإيمان) في مدينة صنعاء عام 1926م، وكانت قد توقفت لمدة خمس سنوات مدة الحرب العالمية الثانية ولكنها عادت مرة أخرى عام 1947م، واستمرت حتى عام 1957م، وتُعدُّ صحيفة (التهذيب) أحد المظاهر لتأثير الصحافة المهجرية والنشاط الأدبي في إندونيسيا، وقد كان من أبرز محرريها الشاعر والكاتب علي أحمد باكثير( )، غير أنّ صدور مجلة الحكمة (1938م 1941م)، في صنعاء( )، وصحيفة (فتاة الجزيرة) في عدن (1940م1967)، كان إيذانا بولادة الصحافة الأدبية والفكرية في اليمن، إذ جمعت المجلة الأولى طلائع المفكرين والشعراء ودعاة الإصلاح والنهضة في الفكر والأدب الحديث في اليمن، وحملت الصحيفة الأخرى لقرائها آراءً قريبة من النقد الأدبي أو من دراسات تعنى بالأدب وتدعو إلى تطوير مفاهيمه، كما ظهرت، في عدن أيضاً، مجلتان اهتمتا بشؤون الأدب والفكر والثقافة هما الأفكار (في سبتمبر أيلول 1945م)، والمستقـبل (في ينايـر – كانون الثانِِي 1949م)، وقد “عبرتا عن الصحوة الأدبية والفكرية التي تبشر بالجديد الثقافي والفكري وذلك بما قدمته من آراء وأفكار جديدة عن الأدب والنقد، وكذا التعريف بشعر الغرب دراسة وترجمة” ( )، وفي عام 1946م أصدر الأحرار اليمنيون صحيفتهم (صوت اليمن)، وكانت قد توقفت بعد إخفاق ثورة 1948م، ولكن سرعان ما عادت للظهور عام 1953 ورافقتها في الصدور صحف أخرى منها (الأفكار) و(الذكرى) و(سن رايز) الإنجليزية في النصف الأخير من الأربعينيات.

وفي بداية الأربعينيَّات أيضاً قامت مجموعة من الأدباء بإنشاء مجلة خطية أسموها (البريد الأدبي)، وكانوا يتناقلونها أسبوعياً في مختلف مدن اليمن، وقد أسهمت هذه المجلة “في نقل الوعي النقدي في شمال البلاد نقلة صائبة، وقد أصدر هذه المجلة مخطوطةً مجموعةٌ من أدباء اليمن المشاهير، وكانت البريد الأدبي موئلاً للأفكار المتنورة تضم بين صفحاتها النقد الأدبي والشعر من القديم والحديث والمحاورات الأدبية” ( ). وكان من أبرز كتَّابها، زيد بن علي الموشكي، وأحمد محمد الشامي، وإبراهيم الحضراني، وأحمد المروني، وعلي العنسي، وعلي حمود الديلمي، وأحمد باسلامة، وأحمد البراق، غير أنها تلاشت سنة 1947م( ).. وبعد إخفاق ثورة 1948م تولى الإمام أحمد مقاليد الأمور بعد مقتل والده_ وأنشأ في تعز صحيفتين رسميتين هما: الأولى (سبأ) في يناير 1949م ولكنها حوصرت من الرقابة الإنجليزية التي مارست عليها ضغوطات كثيرة لمساندتها حكم الإمام. والأخرى (النصر) وصدر العدد الأول منها في 9 فبراير 1950م إلاّ أن أثرهما في الأدب محدود.

وفي بداية الخمسينيَّات تولى أحمد محمد الشامي الإشراف على مجلة (الندوة) التي أصدرها مجموعة من الأدباء في سجن حجة سنة 1951م، وهي خطية أيضاً شأنها شأن (البريد الأدبي)، وقد حفلت هاتان المجلتان بالأدب الرفيع شعراً ونثراً، “كما كان لهما أعظم الأثر في الارتفاع بمستوى الذوق الفني والأدبي بين قرائها في تلك الفترة من الزمن” ( ).

وصدرت في مدينة (تعز) صحيفة (الطليعة) في 14 أكتوبر 1959م وترأس تحريرها المناضل عبدالله عبد الرزاق باذيب، وقد استقبل الإمام أحمد بارتياح مبادرتها بإضفاء الشرعية وتعزيز نظرياتها التي تدعو إلى تحرير جنوب اليمن وضمه إلى الوطن الأم، وهذه رؤية جليلة ودلالاتها كبيرة ومضامينها راسخة، وقد هزَّت الاستعمار وركائزه هزَّةً عنيفة. وهناك صحف أخرى جعلت من المحور النقابي ميداناً لها، وكانت جريدة (العامل) أول جريدة رسمية ناطقة بلسان مؤتمر عدن للنقابات من (1957 ـــ 1960) وصدرت (العمال) عام (1965 ــ 1966م).

كما شهدت عدن في مرحلة الخمسينيات “حركة صحفية ناشطة، وصلت في بداية الستينات إلى ذروتها وساعدت منذ وقت مبكرٍ على تشجيع الحركة الشعرية وطبع دواوين بعض الشعراء” ( )، كما وضعت ثورة 26 سبتمبر 1962م بداية أساسية جديدة لحياة ثقافية متطورة، فقد ظهرت الصحافة اليومية والأسبوعية، التي كانت ظهرت نواة متقدمة للمجلات الأدبية والفكرية المتطورة مثل صحيفة (الجمهورية) وصحيفة (26 سبتمبر) ومجلة (دراسات يمنية) و(اليمن الجديد) في صنعاء. وفي عدن (صحيفة (14 أكتوبر) وصحيفة (الثورة) ومجلتي (الحكمة و(الثقافة الجديدة) كما ظهرت مجلة (المصباح) و(الكلمة).

وقد كان لكل هذه المجلات والصحف أثرٌ فاعلٌ في الانطلاقة الفكرية والشعرية في مرحلتي السبعينيات والثمانينيات. ولا بد أن يرتبط هذا الكم الهائل من النشاط الأدبي والنقدي بالمطابع والمكتبات التي تعدُّ من العوامل المؤثرة والرئيسة في النهضة الأدبية والفكرية في اليمن، وكما كانت عدن مركزاً إشعاعياً لظهور المنتديات والمخيمات الأدبية والثقافية، فقد شهدت تطوراً ملموساً في المجالين الطباعي والمكتبي “وقدمت المطابع والمكتبات عملاً كبيراً في نشر الكتاب بين صفوف الناس، وقد كان هذا الكتاب متنوعاً متعدد المصادر والاتجاهات يجمع إلى المحلية الكتاب العربي والعالمي.. وكانت المكتبات في مدينة عدن مليئة بمختلف الصحف وشتى الكتب القادمة من جميع أنحاء العالم الشيء الذي أرسى معالم الثقافة وحدد صور الفكر في معنى من المعاني”( ) وقد تعددت المطابع في عدن وتفاوت أداؤها وسنذكر للفائدة المطابع المهمة تتصدرها مطبعة شركة قهوجي دنشو وإخوانه في مدينة التواهي التي تأسست عام 1854م. وقد عدّت مطبعة فتاة الجزيرة من المطابع الأكثر أهمية في المطابع اليمنية بشكلٍ عام ومطابع عدن بشكلٍ خاص، وكان مقرها مدينة كريتر، وتكمن أهميتها من كونها مطبعة عامة. وكانت تطبع صحف (فتاة الجزيرة، الأفكار، الأخبار، الفضول، أخبار الجنوب، القلم العدني، فضلاً عن إسهامها في إخراج عدد كبير من الأعمال الأدبية والفكرية، وقد كان صاحبها الرائد المحامي محمد علي لقمان.

وهناك مطابع كثيرة ومتنوعة وقد يطول بنا البحث إذا ما استعرضناه

من أهم هذه المطابع: مطبعة مكتب العلاقات العامة والنشر لحكومة عدن، وقد تأسست عام 1939 في مدينة التواهي، و”مطبعة بالنجي دنشو” ويرجع تأسيسها إلى عام 1940 في مدينة التواهي وتأسست في المدينة نفسها مطابع أخرى منها: (مطبعة كاكستون)1940م و(مطبعة أنغام) 1959 و”مطبعة النهضة اليمانية في مدينة كريتر وقد تأسست عام 1946 وكانت تطبع، صحيفة (صوت اليمن)، وفي مدينة كريتر تأسست عدد من المطابع منها: مطبعة الهلال عام 1948. و(مطبعة الحظ) عام 1948م، و(مطبعة دار الجنوب للطباعة والنشر) 1950م، و(مطبعة الكمال) 1950 وكانت تطبع، صحيفة النهضة وجريدة اليقظة وقد تغير اسمها فيما بعد إلى (مطبعة اليقظة). و(دار الحرية للطباعة والنشر 1958م، و(دار الجماهير للطباعة والنشر) 1952م. و(مطبعة السلام للطباعة والنشر) 1952م. و(مطبعة الشعب) 1953م، و(المطبعة العربية) 1954م، و(دار البعث للطباعة والنشر) 1955م، و(المطبعة الزينية) 1958م. و(دار الأيام للطباعة والنشر) وصاحبها محمد علي باشراحيل ومطبعة الكفاح)1961م، و(مطبعة علي محمد لقمان) 1965م، وكان يطبع فيها صحيفة القلم العدني. وفي مدينة الشيخ عثمان تأسست عدد من المطابع منها: (مطبعة بلقيس) 1955م و(مطبعة الوطن) عام 1959م وفي مدينة المعلا تأسست (مطبعة حزب الشورى اليمني) 1950م، و(مطبعة عيدروس الحامد) 1952م، و(مطبعة الشرق) 1962 وقد انتقلت إلى مدينة الحديدة عام 1967م. للاستزادة ينظر: الحركة الثقافية

رغم الجراح نحتفي

شعر: ا. د. فضل مكوع

أرضنا أرض النضال والكفاحْ شمسها قد اشرقتْ في كُلِّ ساحْ

اشرقتْ في الكون هذا عنوةً بالحضارات اشرقت والانفتاحْ

سطَّرتْ تلك البطولاتِ التي عانقت كل العصور بالصفاحْ

ولنا في اليُمْنِ اسمى مَوطِنٍ موطن الإيمان روح الانشراحْ

اصطفاهُ اللهُ بالشعب الصفي صانع الثورات عالي الجناحْ

لا يضاهى في المعالي أبداً عانق البشرى بإشراق الصباحْ

لا يضاهى في الشعوب كلها ساد في الكوني واستعلى النجاحْ

وبأيلول جميعاً نحتفي وبتشرين بغايات الكفاحْ

شعبنا في كل حي يحتفي رغم اهوال المآسي والجراحْ

نحتفي في يومنا السبتمبري والجماهيرُ تذودُ بالسلاحْ

عن مبادئ ثورتي الشعبِ الأبي ذاد عن اهدافها الكبرى وصاحْ

صاح في وجه الأعادي كلهم بالسيوف المشرفات والرماحْ

أنهت الحكم الإمامي جملة فإذا الشعب اليماني استراحْ

فنظامُ الظلمِ ولّى وانتهى وطردنا ذلك الغازي وراحْ

وارتمى في الوحل ولى خاسئاً خالدا في الدرك تنهشه الرياحْ

شعب لم يقبلْ عدوا غازيا وسل التاريخ عن هذا الكفاحْ

لمْ ولنْ يقبلٓ هذا طبعهُ صار هذا الطبع عزما واصطلاحْ

ولنا تِلْكَ الفتوحاتُ التي نورها شعَّ على الكونين لاحْ

فبلاد اليُمْنِ أصلٌ ومدى ولها النصرُ الحقيقي والنجاحْ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى